اجتماع الصين- هل يلتئم الجرح الفلسطيني أم يستمر الانقسام؟

مرة أخرى، تلتقي الحركتان الفلسطينيتان الرائدتان، "فتح" و"حماس"، هذه المرة في رحاب الصين، في محاولة جادة لمناقشة وتدارس السبل الكفيلة بمعالجة الانقسام الفلسطيني المستفحل، والسعي نحو توحيد الصفوف الفلسطينية في هذه المرحلة الدقيقة والحاسمة من تاريخ النضال الفلسطيني. تأتي هذه الجهود بينما يواجه قطاع غزة عدوانًا شرسًا وحرب إبادة شاملة تقودها قوى التحالف الصهيو-أمريكي، وذلك في إطار مساعي حثيثة ومحاولات تصفوية من قبل اليمين الصهيوني المتطرف، بهدف تصفية القضية الفلسطينية برمتها، وضم الضفة الغربية وقطاع غزة إلى كيانه المحتل. فهل يا ترى سينجح هذا اللقاء في رأب الصدع الفلسطيني العميق في الصين، وهل سيرتقي قادة الحركتين إلى مستوى المسؤولية في هذه المرحلة المفصلية والخطيرة؟
إن نظرة سريعة إلى تاريخ لقاءات المصالحة الفلسطينية تكشف لنا بجلاء عن هشاشة البنية السياسية الفلسطينية، وعجزها الواضح عن مواكبة التحديات الجسام التي تفرضها حرب الإبادة الشاملة الصهيو-أمريكية في قطاع غزة، وتداعياتها الخطيرة على الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.
فشل مخجل
في الوقت الذي ينحني فيه المرء إجلالًا وإكبارًا لصمود الشعب الفلسطيني الأبيّ، وإصراره العظيم على مقاومة الكيان الصهيوني الغاشم، مهما بلغت التضحيات والمعاناة، فإنه يقف في خجل وحسرة وألم عميقين بسبب الإخفاق المرير الذي منيت به المساعي الرامية إلى توحيد الصف الوطني الفلسطيني، ولملمة الشتات، ومعالجة الجرح الفلسطيني الغائر الذي أحدثه الانقسام في جسد القضية الفلسطينية لأكثر من سبعة عشر عامًا.
ومما يزيد الحسرة والألم، هو أنك قلما تجد مثالًا لهذا الفشل المتكرر عبر التاريخ، لأمة تمر بظروف مشابهة لظروف القضية الفلسطينية، وتواجه عدوًا مشتركًا وشرسًا كالعدو الصهيوني.
إن ما يجعلنا لا نتوقع الكثير من هذا اللقاء المنعقد في الصين، هو كثرة اللقاءات التي سبقتها في العديد من العواصم العربية وغيرها، والتي انتهت جميعها إلى الفشل الذريع، على الرغم من أنها لم تكن منعقدة في ظل الظروف القاسية التي تمر بها القضية الفلسطينية في الوقت الراهن. ولتوضيح الصورة، نستعرض سريعًا أبرز لقاءات المصالحة منذ بداية الانقسام وحتى يومنا هذا:
- عقب وفاة الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، انعقد اجتماع هام في القاهرة ضمّ غالبية الفصائل الفلسطينية، بما في ذلك حركتا فتح وحماس، في شهر مارس من عام 2005م، بهدف توحيد الجهود الفلسطينية في مواجهة الاحتلال، وإعادة بناء وهيكلة منظمة التحرير الفلسطينية.
- بعد الانتخابات التشريعية التي حققت فيها حركة حماس فوزًا ساحقًا في شهر يناير من عام 2006، اجتمع قادة الفصائل الفلسطينية في سجون الاحتلال، بمن فيهم ممثلون عن فتح وحماس، في شهر مايو من عام 2006م، واتفقوا على إصدار وثيقة توافق وطني عُرفت باسم "وثيقة الأسرى"، بهدف تنسيق الجهود بين الفصائل الفلسطينية لمقاومة الاحتلال، ونصت الوثيقة على تشكيل حكومة وحدة وطنية، وإقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967م، وقد حظيت الوثيقة بموافقة الرئيس محمود عباس، إلا أن المكتب السياسي لحركة حماس رفضها، بحجة أنها تتطلب الاعتراف بدولة الكيان الصهيوني.
- عقب الانتخابات التشريعية، اتفقت حركة حماس مع الرئيس عباس على تشكيل حكومة وحدة وطنية استنادًا إلى وثيقة الأسرى، إلا أنها أصرت على رفض الاعتراف بالاتفاقيات التي وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية، ومبادرة السلام العربية لعام 2002م. وفي شهر فبراير من عام 2007، اجتمع في رحاب مكة المكرمة كل من الرئيس عباس، ورئيس وزرائه إسماعيل هنية، بحضور رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل، ورئيس جهاز الأمن الوقائي في غزة محمد دحلان، واتفقوا على نبذ العنف، ووقف إطلاق النار، وتشكيل حكومة وحدة وطنية.
- بعد سيطرة حركة حماس على قطاع غزة بشكل كامل في شهر يونيو من عام 2007م، وانقسام السلطة الفلسطينية إلى سلطتين متوازيتين، إحداهما بقيادة حركة فتح في الضفة الغربية، والأخرى بقيادة حركة حماس في قطاع غزة، اجتمع الطرفان في صنعاء في شهر مارس من عام 2008م، واتفقا على استئناف الحوار بهدف رأب الصدع، والعودة إلى الوضع الذي كان قائمًا قبل أحداث غزة.
- بعد معركة الفرقان (عملية الرصاص المصبوب) على قطاع غزة في شهر ديسمبر من عام 2008م، قدمت القاهرة في شهر أكتوبر من عام 2009م وثيقة للمصالحة بين الفصائل الفلسطينية، وقد وقعت عليها حركة فتح، إلا أن حركة حماس، بالإضافة إلى سبع فصائل أخرى، رفضت التوقيع على الوثيقة، ما لم تنص على الثوابت الوطنية وحق المقاومة.
- في شهر سبتمبر من عام 2010م، اتفقت حركتا فتح وحماس في دمشق على الخطوات الضرورية التي يجب اتخاذها لتحقيق المصالحة بينهما، وعلى معالجة بعض المسائل العالقة في اتفاقية القاهرة للمصالحة بين الفصائل الفلسطينية.
- في شهر مايو من عام 2011، تم توقيع وثيقة القاهرة في احتفال بهيج، والاتفاق على تشكيل حكومة مؤقتة مشتركة، وإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية في عام 2012م.
- عُقد اجتماع بين الطرفين في الدوحة في شهر فبراير من عام 2012م لمتابعة خطوات تنفيذ اتفاق القاهرة، الذي جرى التأكيد عليه في القاهرة مرة أخرى في شهر مايو من عام 2012م.
- في شهر أبريل من عام 2014، وقّعت فتح وحماس مرة أخرى في غزة على اتفاق لتشكيل حكومة وحدة وطنية وإجراء انتخابات عامة.
- بعد معركة العصف المأكول (الجرف الصامد) في شهر يوليو من عام 2014م، وقّعت فتح وحماس اتفاق القاهرة في شهر سبتمبر من عام 2014م، والذي أكد على تمكين حكومة الوفاق الوطني من القيام بمهامها في قطاع غزة، وتنفيذ عملية الإعمار، وحل المشكلات العالقة، وتوحيد المؤسسات المدنية والأمنية.
- التقى وفدا الحركتين في الدوحة في شهر فبراير من عام 2016م، لبحث آلية تنفيذ الاتفاقيات السابقة، والاتفاق على تشكيل حكومة وحدة وطنية، والتحضير للانتخابات في غضون ستة أشهر.
- في شهر أكتوبر من عام 2017م، وقّعت الحركتان على اتفاق القاهرة الذي اعتبره الرئيس عباس اتفاقًا نهائيًا لإنهاء الانقسام، والذي تم الاتفاق فيه على تمكين حكومة الوفاق الوطني من ممارسة مهامها وتحمل مسؤولياتها الكاملة في إدارة شؤون قطاع غزة، بحد أقصى الأول من ديسمبر/كانون الأول 2017م.
- لم يتم تنفيذ أي شيء مما سبق ذكره، وتوالت الاجتماعات بين القاهرة وبيروت وإسطنبول، دون أن تسفر عن أي شيء خارج الورق، والتصريحات، والبيانات الصحفية.
- في شهر نوفمبر من عام 2022، اجتمعت الحركتان في الجزائر، واتفقتا على المصالحة وإنهاء الانقسام، إلا أن هذا الاتفاق لم يتجاوز كذلك البيانات والصور التذكارية.
- في نهاية شهر يوليو من عام 2023م، اجتمع عدد من الأمناء العامين للحركات الفلسطينية في مدينة العلمين المصرية، بهدف تحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام، بمن فيهم حركتا فتح وحماس، وحضر الاجتماع الرئيس أبو مازن، وإسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس.
- وأخيرًا، جاء اجتماع الفصائل الفلسطينية في موسكو أواخر شهر فبراير/شباط الماضي، بناءً على دعوة من الخارجية الروسية، وعلى رأسها حركتا فتح وحماس، بهدف توحيد الصف الفلسطيني وإنهاء الانقسام، تحقيقًا لمصلحة الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية في هذه المرحلة الحرجة، وانتهى الاجتماع دون أن يحقق شيئًا يتماشى مع ما يجري على الأرض الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية، لكنهم اتفقوا على مواصلة الحوار وصولًا إلى الوحدة الوطنية الشاملة في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، وكأنهم يجتمعون للمرة الأولى لهذا الغرض النبيل.
هذا الاستعراض السريع يكشف لنا عن مدى هشاشة البنية السياسية الفلسطينية، وعجزها عن مواكبة تفاصيل حرب الإبادة الشاملة الصهيو-أمريكية في قطاع غزة، وتداعياتها الخطيرة على الشعب الفلسطيني وقضيته، ويؤكد لنا للأسف الشديد أن اللقاء الجاري حاليًا في بكين لا يُتوقع له أن يسفر عن أي نتائج ملموسة تساهم في معالجة انقسام الصف الفلسطيني.
وسيظل هذا اللقاء مجرد تلبية بروتوكولية لدعوة كريمة من الخارجية الصينية، وسيضاف إلى سابقاته من اللقاءات التي أخفقت، على الرغم من كثرتها، في معالجة الانقسام، وتوحيد الصف الفلسطيني، والوقوف صفًا واحدًا في مواجهة التوحش السافر للكيان الصهيوني الغاشم وحلفائه.
هذا الفشل المرتقب يعيدنا من جديد إلى التساؤلات المتكررة والحائرة حول الأسباب الحقيقية الكامنة وراء هذا الفشل المزمن، وإلى متى سيستمر، وكيف يمكن التغلب عليه؟. وهو ما سنحاول الإجابة عنه في مقال قادم بإذن الله.
